قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنبياء:30)
تشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقتين من حقائق هذا الكون، تدلان على إلهية الله تعالى، ووحدانيته، وأنه لا مبدع، ولا خالق سواه: الأولى منهما تتعلق بوحدة هذا الكون العجيب الصنع.والثانية تتعلق بسرِّ الحياة في هذا الكون الفسيح.
والخطاب في الآية الكريمة يراد به عموم الذين كفروا، وإن كان في حقيقته موجهًا لليهود؛ لأنهم المعنيون به، فهم الذين كفروا بوجوده سبحانه، وبقدرته، وسرِّ صُنعه؛ ولهذا أنكر الله تعالى عليهم كفرهم بآياته، في أول الآية بقوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، ثم وبَّخَهم على كفرهم في آخرها بقوله:﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾، فجاء آخر الآية مُطابقًا لأولها. أي: أفلا يكفِهم ذلك دليلاً على الإيمان!!
أما الحقيقة الأولى فيشير إليها الشِّقُّ الأول من الآية الكريمة؛ وهو قوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾
أي: أولم يرَ هؤلاء أن السموات والأرض، كانتا منضمتين إلى بعضهما. أي: ملتحمتين، لا فضاء بينهما، ففصلناهما عن بعضهما. أي: كانتا كرة واحدة، ثم انفصلتا بإرادة الله وقدرته!
أخرج الطبري عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:”كانتا ملتصقتين “. وعن عبيد بن سليمان، قال:”سمعت الضَّحَّاك يقول في قوله:﴿ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾، كان ابن عباس يقول: كانتا ملتزقتين، ففتقهما الله “.
وقال البَغَوِيُّ:”قال ابن عباس- رضي الله عنهما- وعطاء وقتادة: كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين، ففصلنا بينهما بالهواء “.
والرَّتْقُ في اللغة: السَّدُّ. والفَتْقُ: الشَّقُّ. يقال منه: رَتَقَ فلان الفَتْقَ: إذا سَدَّه، فهو يرتقه رَتْقًا ورُتًوقًا، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجُها ملتحمٌ: رَتْقَاءُ.
وقوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ استفهام إنكاري، الغرض منه التنبيه، أو التذكير. وكوْنُه كذلك يقتضي أن ما بعده قد وقع، وعلم به الناس إما عن طريق المشاهدة، أو عن طريق السماع؛ نحو قوله تعالى﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾﴾(يس:77). فهذا تنبيه وتذكير للإنسان ممسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعدما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به.
وقيل في تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:1):”الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو، وإن لم يشهد تلك الوقعة، لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها “.
وكذلك قوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾يقتضي أن الذين كفروا رَأَوْا هذه الظاهرة العجيبة، إماعن طريق المشاهدة، أو عن طريق السماع. ولو لم يكونوا قد شاهدوها حقًّا، لما جاز خطابهم بهذا الخطاب، الذي يقتضي أن ما بعده قد وقع، وأنهم شاهدوه، أو شاهدوا آثاره، وسمعوا به.
قال الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية الكريمة:”اليهود، والنصارى كانوا عالمين بذلك؛ فإنه جاء في التوراة: إن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثم خلق السموات، والأرض منها، وفتق بينها. وكان بين عَبَدَةِ الأوثان، وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك “.
والخطاب في الآية الكريمة لم يكن مقتصرًا على الكفار في عصر النبوة من اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ لأن المراد به العموم، فيشمل الكفار في كل زمان ومكان. فإن لم تكن الرؤية قد تحققت للكفار في العصور القديمة، فقد تحققت لهم في عصرنا هذا، فرأوا بأعينهم هذه الظاهرة العجيبة، التي أخبر الله تعالى عنها منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة مضت.
ومذهب المفسرين أن الاستفهام في الآية الكريمة للتقرير؛ ولهذا قال الزمخشري:”فإن قلت: متى رأوْهما رَتقًا، حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أنه واردٌ في القرآن، الذي هو معجزة في نفسه، فقام مَقام المَرْئِيِّ المُشاهَد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما، كلاهما جائزٌ في العقل؛ فلا بدَّ للتباين دون التلاصق من مخصِّص؛ وهو القديم سبحانه “.
وحَمْلُ هذا الاستفهام على التقرير لا يستقيم مع المعنى المراد من الآية الكريمة؛ لأن التقرير هو حَمْلُ المخاطب على أمر قد استقرَّ عنده، وعلم به، ثم جَحَدَه. وهؤلاء لم يَجْحَدوا ما علموا به، ولم ينكروا ما رأوه؛ ولكنهم بدلاً من أن يؤمنوا كفروا عنادًا واستكبارًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ (البقرة:89)
وهذا ما أنكره الله تعالى عليهم بقوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. ﴾؟ لأن المتوقع ممن رأى هذه الظاهرة الكونية أن يعترف بوحدانية الخالق جل وعلا، وقدرته، وأن يؤمن به، ولا يشرك به أحدًا من خلقه؛ ولهذا أنكر عليهم سبحانه وتعالى كفرهم به، ثم وبخهم عليه في نهاية الآية بقوله:﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾؟
توصل علماء الفلك أن الكون كله كان مركزاً في كتلة صغيرة بحجم البيضة تم تسميتها بالبيضة الكونية ثم أنفجر هذا الكون لينتج عنه هذا الكون الفسيح وهذا أقرب ما يكون للتفسير القرآني لنشأة الكون
ونحو ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام:﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾(البقرة:260).
أي: قد ثبت إيمانك بإحياء الموتى، فلمَ تسأل ؟ مشيرًا بذلك إلى قوله:﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى ﴾(البقرة:260)؟ فأنكر سبحانه وتعالى عليه سؤاله عن كيفية الإحياء؛ ولهذا أجاب إبراهيم عليه السلام بقوله:﴿ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾(البقرة:260).
وهذا الاستفهام لا يجوز حمله على استفهام التقرير، لما ذكرنا من أن التقرير هو حمْل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد علمه، واستقرَّ عنده، ثم جحد به عنادًا واستكبارًا. يبين ذلك قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾(النمل:14).
ويؤكِّد العلماء المعاصرون من الكفار خاصة في أبحاثهم على أن الكون كله كان شيئًا واحدًا متصلاً من غاز، ثم انقسم إلى سَدائمَ، وأن عالمَنا الشمسي كان نتيجة لتلك الانقسامات. والسَّدائمُ جمع سَديمٍ، يراد به السحب، ويطلق فَلَكِيًّا على مجموعة هائلة من النجوم.
ويؤيدون أقوالهم بأنهم استدلوا على أن الشمس تتألف من سبعة وستين عنصرًا من عناصر الأرض، وأن عناصر الأرض تبلغ اثنين وتسعين عنصرًا، وسيزيد المستدل عليه من العناصر في الشمس، إذا ما ذللت الصعوبات، التي تقوم في هذا الشأن. ومن هذه العناصر: الهيدروجين، والهليوم والكربون، والآزوت، والأوكسجين، والفسفور، والحديد.. الخ.
وقد استدلوا على ذلك كله بالتحليل الطيفي؛ وهو الذي يستدل به الكيمّاويون اليوم في معاملهم، على ما تحتويه المواد الأرضية من عناصر، يكشفون عن نوعها ومقدارها. فالعناصر، التي في الشمس هي عينها في الأرض، والشمس نجم، يتمثل فيه سائر النجوم, والنجوم هي الكون. وهذا يعني: أن العناصر، التي بُنِيَ فيها الكون على اختلافها هي عناصر واحدة.. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن النيازك هي الأشياء الملموسة الوحيدة، التي حصل عليها العلم من الفضاء الخارجي؛ فقد لاحظ العلماء أن أكثر العناصر شيوعًا في الأرض هي العناصر الشائعة في النيازك الحجرية.
وأما الحقيقة الثانية- وهي سِرُّ الحياة- فقد أشار إليها الشق الثاني من الآية الكريمة؛ وهو قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾. أي: أوجدنا من الماء كل شيء حيٍّ، وكوَّناه بقدرتنا.
وقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا ﴾، ولم يقل:﴿ خَلَقْنَا ﴾؛ لأن{ جَعَلَ }لفظ عام في الأفعال. ولمَّا كان قوله تعالى:﴿ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾مرادًا به عموم المخلوقات، ناسب التعبير عنه بفعل يدلُّ على العموم.
وقال تعالى- هنا-:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾، وقال في سورة النور:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾(النور:45)، فعرَّف لفظ﴿ الْمَاء ﴾ في الأول، ونكَّره في الثاني.
أما تعريفه في الأول فلأن المعنى: أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس، الذي هو الماء، فجاء ذِكْرُ الماءِ- هنا- معرَّفًا بأل الجنسية؛ ليشمل أجناس المخلوقات المختلفة الأنواع.
وأما تنكيره في الثاني فلأن المعنى: أن الله سبحانه خلق كل دابة من نوع مخصوص من الماء؛ وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات، بحسب اختلاف نطفها: فمنها هوامٌ، ومنها ناسٌ، ومنها بهائمٌ..
﴿ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾(النور:45).
وتحرير الفرق بين القولين: أن الغرض من الأول إظهار الآية بأن أشياء متفقة في جنس الحياة، قد تكونت بالقدرة من جنس الماء المختلف الأنواع.
أما الغرض من الثاني فهو إظهار الآية بأن شيئًا واحدًا، قد تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة.. فتأمل أسرار الله تعالى في خلقه، وفي كلامه، الذي سجد لبلاغته وفصاحته البلغاء والفصحاء.