هذا رد الشيخ عبد الحليم توميات في منتديات تبسة الاسلامية
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:فإنّه
إن صحّ النّقل عن الأستاذ المذكور ولم يُحَرَّف كلامه حول إباحة قروض
تشغيل الشّباب مقابل ما يسمّونه بالفائدة - وما هي إلاّ رباً ألبسوه زورا
لباس الفائدة - في غاية البعد عن الحقّ، وقريبة كلّ القرب من الإضرار
بالخلق.ويظهر لنا ذلك من مناقشة أصلين بنى عليهما جوابه، وكسا بهما خطابه، ثمّ من مناقشة الفروع المذكورة في فتواه:1- الأصل الأوّل: نظرته إلى المجتمع على أنّه مجتمع جاهليّ:
- أوّلا: العجبُ كيف يُنشر مثل هذا الكلام على صفحات الجرائد ! حتّى إذا تلقّفه أهل التّكفير والتّفجير ناحُوا على تلك الصّفحات نفسها قتلاهم، وبكَوْا على جرحاهم !- ثانيا:
قوله هذا مبنيّ على عدم القول بالموازنة الشّرعيّة وتجزّؤ الإيمان
والإسلام، وكان أوّل من حمل لواء ذلك الخوارج الّذين قالوا: إنّه إمّا
إيمان أو كفرٌ ! ومشى على خطاهم من لا يرى تجزّؤ السنّة، فالمرء إمّا سنّي أو مبتدع ! والحقّ، هو مذهب أهل السنّة وأئمّة السّلف أنّ الإيمان يتجزّأ، وأنّه يمكن أن يكون المرء مؤمنا عاصيا، وكذا يمكن أن يكون سنّيا واقعا في بدعة، والميزان عند الله تبارك وتعالى.فالمجتمع
إن انتشرت فيه كثير من مظاهر الجاهليّة، فلا يعني ذلك أبدا أنّه صار
جاهليّا، وهو يُحْيي كثيرا من شعائر الإسلام، ومظاهر الإيمان. وها هو
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبي ذرّ رضي الله عنه: (( يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ )) [متّفق عليه]
. ولم يقل له: إنّك جاهليّ ! حاشاه رضي الله عنه.وقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ )) [متّفق عليه] فقال: (( فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ ))، ولم يقل: تعود بها أمّتي إلى الجاهليّة.- ثالثا:
المسلم إزاء الواقع المرّ ينبغي له أن يكون داعيةً إلى الإصلاح، ويحتاج
ذلك إلى تضافر الجهود على جميع الأصعِدة، لا أن يستسلم للواقع، باستباحة
الحرام كلِّه، بحجّة العجز عن تفادي جلِّه.فقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) [متّفق عليه].
- رابعا: لنستبشر بما يبدّد ظلمات الجهل والانحراف في كلّ زمان ومكان، فقد قال تعالى:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8
) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9
)} [الصفّ]
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ )) [البخاري]
.ولنحذر من الوقوع فيما لا تُحمد عقباه، ففي صحيح مسلم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ )) وفي رواية: (( فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ )).إذا علمنا ذلك سقط قول الأستاذ:" أدلّة تحريم الربا ونصوصها يجب أن تتنزّل على كيان إسلاميّ فعلي وحقيقي، وليس على واقع وضعي يتأسس أصلا على المعاملات الربوية " ! وقوله:" فلا مجال إذن من تركيب شرع إسلاميّ على جاهلية اجتماعية وسياسية واقتصادية ".2- الأصل الثّاني: قوله:" حيثما وُجدت المصلحة فثمّة شرع الله "، واستدلاله بقاعدة:" المشقّة تجلب التّيسير " !
هذه القواعد العامّة من الحقّ الّذي يراد به في هذا العصر كثير من الباطل ! والسّيف في يد الشّجاع مهنّد قاضب، وفي يد الجبان مخراق لاعب.فهذه
القواعد يستدلّ بها من ألمّ بالشّريعة وأصولها وفروعها، وخالط ذلك كلّه
دمه ولحمه وشحمه، فإذا تنفّس أو تحرّك أو تكلّم تنفّس وتحرّك وتكلّم
بالشّريعة، وضابط ذلك: ألاّ تصادم هذه القواعدُ العامّةُ النّصوصَ الشّرعيّةَ. - أوّلا: أمّا قول أهل العلم:" حيثما وُجدت المصلحة فثمّة شرع الله "، فينبغي أن يُفهم على ضوء ما ذكروه في باب الاستصلاح، حيث نراهم قسّموا المصالح إلى: معتبرة، ومرسلة، وملغاة، وعرّفوا الملغاة بأنّها: المصادمة لنصّ شرعيّ.فهم يقصِدون إذن بقولهم:" حيثما وُجدت المصلحة فثمّة شرع الله " المصالح المرسلة الّتي لا تصادم نصوص الشّريعة.وإنّ فهمه الّذي بنى عليه فتواه ! يفتح على الأمّة باب شرّ لا يوصد، فيظهر من يبيح التّجارة في الخمر –
وقد قيل بذلك –
بحجّة الضّرورة الاقتصاديّة ! ثمّ لا يُترك باب من أبواب الحرام إلاّ فُتِح باسم الضّرورة !- ثانيا: واستدلاله بالقاعدة النّورانيّة: ( المشقّة تجلب التّيسير ) فهو استدلال في غير محلّه.ذلك لأنّ الّذي قال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} هو الّذي حرّم الرّبا، ولم يُبِحْه بحال من الأحوال، حتّى قال أبو الوفاء ابن عُقيل رحمه الله:" الرّبا عقد لا تبيحه الضّرورة ".فما معنى القاعدة الشّرعيّة السّابق ذكرها ؟إنّما معناها: المشقّة تجلب التّيسير المأذون فيه، لا المحرّم،
كمن عجز عن القيام في الصّلاة فإنّه يُصلّي جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنب،
ولا يقال له: لا بأس بألاّ تصلّي؛ لأنّ المشقّة تجلب التّيسير !وقد ذكر الشّاطبيّ رحمه الله في " الموافقات " (4/132-155): أنّ الحنيفيّة السّمحة هي الّتي فيها السّماح، وهو مقيّد بما هو جارٍ على أصولها.وقال ابن نجيم رحمه الله في " الأشباه والنّظائر " (1/117) إنّ المشقّة ورفع الحرج يعتبران في موضع لا نصّ فيه، أمّا ما مع ورود النصّ بخلافه فلا يجوز التّخفيف فيه بالمشقّة.( فصل ) في مناقشة ما ذكره من الفروع:
- أوّلا:
استدلاله:" بفعل الخليفة الرّاشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام
الرمادة سنة 15 هـ عندما سرق الناس ليأكلوا، وليحموا أنفسهم غائلة الجوع،
فرأى بثاقب نظره عدم توفر الأدلة الكافية لإنزال نصّ حد السّرقة في محلّه "
!.وهذا الاستدلال فيه نظر من وجوه:أ) أنّ هذا الأثر –
على شهرته –
لا يصحّ، والحكم المذكور من ترك القطع وقت المجاعة صحيح.ب) أنّ المجاعة لا تغيّر من حكم السّرقة شيئا،
ويكون السّارق قد أتى كبيرة من الكبائر، وإنّما الّذي يُترك في هذه الحالة
هو إقامة الحدّ على السّارق. ولا شكّ أنّ مسألتنا وقضيّتنا تتحدّث عن الحلال والحرام، لا عن الحدود.ب) إنّ السّارق إذا لم تتوفّر شروط القطع فيه، لا يعني إكرامه، وإباحة فعله، بل يُعزّر بما يراه الحاكم مناسبا، ويجب عليه ضمان ما سرقه.ج)
لو صحّ أثر عمر رضي الله عنه فيكون مستنبطا من النّصوص، لا من الرّأي
المجرّد، فقد روى التّرمذي وأبو داود والنّسائي عن عبد الله بن عمرِو رضي
الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ
الْمُعَلَّقِ ؟ فَقَالَ: (( مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً - أي لا يضعه في أكمامه ولا ثيابه - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ )).- ثانيا: أمّا قوله عن نسبة الفائدة المقدّرة بـ 1 %:" هي عند أهل الاختصاص ! في عالم المال ! تُعد مقابل الخدمات المصرفية والبنكية ومنحا تُعطى للمشرفين على تسيير مثل هذه المشاريع ومتابعتها "اهـ. فجوابه من ثلاثة أوجه:أ) إنّ أهل الاختصاص ! في عالم المال ! يقولون أكثر من ذلك، والعبرة بقولهم إذا كانوا يتكلّمون انطلاقا من التّحاكم إلى الشّريعة.ب) جعله 1% مقابل الخدمات خطأ، لأنّ المبلغ المقدّر لذلك مذكور على حِدة، والفائدة تذكر على حدة، فهي شيء زائد على ما يقابل الخدمة.ج) ثمّ لو كانت مقابل الخدمة لكان لها سعرٌ ثابت، فإنّ العامل لا يختلف جهده ووقته باختلاف المبلغ المقروض، فدلّ على أنّ أخذهم للنّسبة هو من الفائدة الرّبويّة لا مقابل الخدمة.- ثالثا: أمّا قول الأستاذ:" ذلك سيحرم قطاعا كبيرا من الأمّة من حقوقها ومستحقّاتها ...". فالجواب من وجوه:أ) قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( لا يكُنْ همُّك تخليص السّائل، ولكن ليكُن همّك تخليص نفسك )، فالمفتي موقّع عن ربّ العالمين، فليحذر من القول على الله تبارك وتعالى من غير علم.ب)
الأمّة قد حَرَمت نفسها من حقوقها يوم أعرضت عن التّحاكم إلى شريعة الله
تبارك وتعالى، وكم خسر العالَم من تضييع الشّريعة ! وإنّ الّذي يجتنبون
الرّبا بجميع صوره هم أولئك الّذين يريدون أن يستعيدوا تلك الحياة السّعيدة
في ظلّ الخلافة الرّشيدة.ج)
ينبغي لدعاة الإصلاح تربية الأمّة على العقيدة الصّحيحة، والعمل الصّالح،
فإنّ ذلك أعظم أسباب السّعادة في الدّارين، يقول الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2
) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3
)} إلى أن قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [سورة الطّلاق]
.هذا باختصار ما أردت التّعليق به على كلام الأستاذ،
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا جميعا إليه، ويدلّنا به عليه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليهhttp://www.tbessa.net/t10522-topic