بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ لا أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ . وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ . وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ . لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ . أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ . يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً . أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ . أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾
﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ ﴾: { لاَ } للاستفتاح، أي: استفتاح الكلام وتوكيده، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني أنا أقسم بهذا البلد لكن (لا) هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد، و ﴿ أُقْسِمُ ﴾ القسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص. فكل شيء محلوف به لابد أن يكون معظّماً لدى الحالف، وقد لا يكون معظمًا في حد ذاته. فمثلاً الذين يحلفون باللات والعزى هي معظمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظّمة. فالحلف، أو القسم، أو اليمين المعنى واحد، هي تأكيد الشيء بذكر معظم عند الحالف على صفة مخصوصة.
وحروف القسم هي: الباء، والواو، والتاء، والذي في الآية الكريمة هنا ﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ ﴾ : (الباء). ﴿ بِهَـذَا الْبَلَدِ ﴾ البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجدير بهذا البلد الأمين أن يقسم به. ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق. كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: « مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ » ، أما الله عز وجل فإنه سبحانه يقسم بما شاء، ولهذا أقسم هنا بمكة ﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ ﴾ .
﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ ﴾ قيل المعنى: أقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه، لأن حلول النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة يزيدها شرفاً إلى شرفها. وقيل المعنى: وأنت تستحل هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حال كونها حلاًّ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عام الفتح أُحلت للرسول عليه الصلاة والسلام ولم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعد ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: « وقد عادَتْ حُرْمَتُها اليومَ كحُرمتِها بالأمس » ، فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيداً بما إذا كانت حلاًّ للرسول صلى الله عليه وسلّم عـام الفتـح؛ لأنهـا في ذلك اليـوم تزداد شرفاً إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام وهزم المشركون، وفتحت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلد كفر صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بـلاد شرك صـارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حال لمكة كانت عند الفتح.
﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ يعني: وأقسم بالوالد وما ولد، فمن المراد بالوالد ومن المراد بالولد؟
قيل: المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم وعلى هذا تكون (ما) بمعنى (من) أي: ووالد ومن ولد، لأن (من) للعقلاء، و(ما) لغير العقلاء. وقيل: المراد بالوالد وما ولد كل والد وما ولد، الإنسان والبهائم وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل، كيف يخرج هذا المولود حيًّا سويًّا سميعاً بصيراً من نطفة من ماء، فهذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل، هذا الولد السوي يخرج من نطفة ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ ﴾ [يس:77]. كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفة هزيلة، ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حد. والصحيح أن هذه عامة تشمل كل والد وكل مولود.
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ : اللام هنا واقعة في جواب القسم، لتزيد الجملة تأكيداً، و﴿ قد ﴾ تزيد الجملة تأكيداً أيضاً فتكون جملة ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم، واللام، وقد. ﴿ خَلَقْنَا الإِنسَانَ ﴾ الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم ﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ فيها معنيان:
المعنى الأول: في استقامة، يعني أنه خلق على أكمل وجه في الِخلقة، مستقيماً يمشي على قدميه، ويرفع رأسه، وبدنه معتدلاً. والبهائم بالعكس الرأس على حذاء الدبر، أما بنو آدم فالرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]. وقيل: المراد بـ { كَبَدٍ } مكابدة الأشياء ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، وفي طلب الرزق، وفي إصلاح الحرث وغير ذلك. ويعاني أيضاً معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا الجهاد الذي هو أشق من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتلي الإنسان ببيئة منحرفة وصار بينهم غريباً، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضاً.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الآية شاملة للمعنيين؟
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدت في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة فاحملها على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح. فمثلاً، قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة:228]. ﴿ قُرُوءٍ ﴾ جمع قرء بفتح القاف فما هو (القرء)؟ قيل: هو الحيض، وقيل: هو الطهر. هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً للتناقض، لكن اطلب المرجح لأحد القولين وخذ به. فهنا نقول: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ يصح أن تكون الاية شاملة للمعنيين أي في حسن قامة واستقامة، و﴿ في كبد ﴾ في معاناة لمشاق الأمور.
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ أي: أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يقدر عليه أحد، لأنه في عنفوان شبابه وقوته وكبريائه وغطرسته، فيقول لا أحد يقدر علي، أنا أعمل ما شئت، ومنه قوله تبارك وتعالى: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ . قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ [فصلت:15]. إذاً، فالإنسان في حال صحته وعنفوان شبابه يظن أنه لا يقدر عليه أحد، حتى الرب عز وجل يظن أنه لا يقدر عليه، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، أما المؤمن فإنه يعلم أن الله قادر عليه، وأنه على كل شيء قدير فيخاف منه.
﴿ يَقُولُ ﴾ أي يقول الإنسان أيضاً في حال غناه وبسط الرزق له ﴿ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ أي: مالاً كثيراً في شهواته وفي ملذاته.
يقول الله عز وجل: ﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال، وصرفه في ما لا ينفع، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس، وأن يستكبر من أجل قوته البدنية، أو كثرة ماله.
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾ . هذه ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان.